بسم الله الرحمن الرحيم

من العجب الذي نراه في أمة الإسلام اليوم، أن أي خبر وأي صورة وأي (حديث) يصل إلى أحدنا، يسارع بنشره، ولو كان فيه من المغالطات الشرعية الظاهرة للعيان،
ودون أدنى محاولة للتأكد أو التوثق!
ومن ذلك ما يسمونه (حديثًا قدسيًا) ينسبونه إلى ذات الله تعالى (أطعني يا عبدي تكن عبدًا ربانيًا تقول للشيء كن فيكون)!! ولا أدري كيف ينشر مثل هذا الكلام على أنه
حديث قدسي من لديه أدنى ذرة من النظر في دين الله تعالى، فالله سبحانه من يقول للشيء كن فيكون، وما كانت هذه الميزة لعبد من عبيده،
حاشا وكلا!!

والقصة التي سنتوقف عندها تنسب إلى الخليفة الفاروق رضي الله عنه، لتظهر _كما يظن ناقلوها_ عظمته في مواقف الحق،
ولو أنهم ردوها إلى دين الله تعالى لتبين لهم بطلانها بإذن الله تعالى.

والقصة كما يأتي:

أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان في المجلس وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه



‏قال عمر: ما هذا؟
قالوا : يا أمير المؤمنين ، هذا قتل أبانا


‏قال: أقتلت أباهم ؟



‏قال: نعم قتلته !



‏قال : كيف قتلتَه ؟



‏قال : دخل بجمله في أرضي ، فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه ‏حجرًا، وقع على رأسه فمات...



‏قال عمر : القصاص ....



‏الإعدام



قرار لم يكتب ... وحكم سديد لا يحتاج مناقشة ، لم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل ، هل هو من قبيلة شريفة ؟ هل هو من أسرة قوية ؟ ما مركزه في المجتمع ؟ كل هذا لا يهم عمر - رضي الله عنه - لأنه لا يحابي ‏أحداً في دين الله ، ولا يجامل أحدا ًعلى حساب شرع الله ، ولو كان ‏ابنه ‏القاتل ، لاقتص منه ..


‏قال الرجل : يا أمير المؤمنين : أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض ‏أن تتركني ليلة ، لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية ، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ، ثم أعود إليك ،

والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا

قال عمر : من يكفلك أن تذهب إلى البادية ، ثم تعود إليَّ؟

‏فسكت الناس جميعا ً، إنهم لا يعرفون اسمه ، ولا خيمته ، ولا داره ‏ولا قبيلته ولا منزله ، فكيف يكفلونه ، وهي كفالة ليست على عشرة دنانير، ولا على ‏أرض ، ولا على ناقة ، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف ..



‏ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله ؟ ومن يشفع عنده ؟ ومن ‏يمكن أن يُفكر في وساطة لديه ؟ فسكت الصحابة ، وعمر مُتأثر ، لأنه

‏وقع في حيرة ، هل يُقدم فيقتل هذا الرجل ، وأطفاله يموتون جوعاً هناك أو يتركه فيذهب بلا كفالة ، فيضيع دم المقتول ، وسكت الناس ، ونكّس عمر‏رأسه ، والتفت إلى الشابين : أتعفوان عنه ؟
‏قالا : لا ، من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين..


‏قال عمر : من يكفل هذا أيها الناس ؟!!
‏فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده ، وصدقه ،وقال:

‏يا أمير المؤمنين ، أنا أكفله
قال عمر : هو قَتْل ،
قال : ولو كان قاتلا!


‏قال: أتعرفه ؟



‏قال: ما أعرفه ، قال : كيف تكفله؟



‏قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين ، فعلمت أنه لا يكذب ، وسيأتي إن شاء‏ الله


‏قال عمر : يا أبا ذرّ ، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك!
‏قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين ...
‏فذهب الرجل ، وأعطاه عمر ثلاث ليال ٍ، يُهيئ فيها نفسه، ويُودع أطفاله وأهله ، وينظر في أمرهم بعده ،ثم يأتي ، ليقتص منه لأنه قتل ....
‏وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد ، يَعُدّ الأيام عداً ،

وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة : الصلاة جامعة ، فجاء الشابان ، واجتمع الناس ، وأتى أبو ‏ذر وجلس أمام عمر ، قال عمر: أين الرجل ؟ قال : ما أدري يا أمير المؤمنين!
‏وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس ، وكأنها تمر سريعة على غير عادتها، وسكت ‏الصحابة واجمين ، عليهم من التأثر مالا يعلمه إلا الله.
‏صحيح أن أبا ذرّ يسكن في قلب عمر، وأنه يقطع له من جسمه إذا أراد
‏لكن هذه شريعة ، لكن هذا منهج ، لكن هذه أحكام ربانية ، لا يلعب بها ‏اللاعبون ‏ولا تدخل في الأدراج لتُناقش صلاحيتها ، ولا تنفذ في ظروف دون ظروف ‏وعلى أناس دون أناس ، وفي مكان دون مكان....




‏وقبل الغروب بلحظات ، وإذا بالرجل يأتي ، فكبّر عمر، وكبّر المسلمون ‏معه
فقال عمر : أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ، ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك !!
قال: يا أمير المؤمنين ، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى !! ها أنا يا أمير المؤمنين ، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل.. وخشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس

فسأل عمر بن الخطاب أبو ذر لماذا ضمنته؟؟؟



فقال أبو ذر: خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس
‏فوقف عمر وقال للشابين : ماذا تريان؟



‏قالا وهما يبكيان : عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه..
وقالا نخشى أن يقال لقد ذهب العفو من الناس!



‏قال عمر : الله أكبر ، ودموعه تسيل على لحيته .....


‏جزاكما الله خيراً أيها الشابان على عفوكما..



وجزاك الله خيراً يا أبا ‏ذرّ يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته، وجزاك الله خيراً أيها الرجل ‏لصدقك ووفائك ...



‏وجزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين لعدلك ورحمتك....

‏قال أحد المحدثين :



والذي نفسي بيده، لقد دُفِنت سعادة الإيمان ‏والإسلام في أكفان عمر!!.


هذه هي القصة، ومرة أخرى نطرح السؤال هل تصح؟
والإجابة لا، لا تصح بأي حال من الأحوال!

سنغض النظر عن عديد الأسئلة والنقاط التي تطرح في صحة هذه القصة، لنتوقف عند أكثر الأدلة أهمية والتي تثبت أنها محض افتراء لا أكثر ولا أقل،
فمن جهة أول ما وردت هذه القصة كانت في كتاب بعنوان (إعلام الناس بما وقع للبرامكة) لل (إتليدي) بعنوان عمر والشاب القاتل وأبو ذر، يرويها عن القاضي شرف الدين حسين بن ريان، وطبعًا الرواية مختلفة نوعيًا عن هذه المنتشرة في المنتديات، ففيها القاتل غلام، ويريد أن يخبر أخًا له بمال وذهب تركه أبوه قبل موته، ولكن المهم أن المغزى واحد، وهو (كفالة أبو ذر الغفاري له، ثم عمر بن الخطاب يهمُّ بقتل أبي ذر، ويصل القاتل)،
الإتليدي هذا كان بعد العام 1100 هجرية، ويروي عن القاضي شرف الدين حسين بن ريان الذي عاش حقبة ال 700 هجرية، أي هناك 400 عام تفصل صاحب الكتاب محمد الإتليدي عمن روى عنه، ولم يورد سندًا للرواية، وهناك حوالي 700 سنة بين هذا المروي عنه وعهد الصحابة، وأيضًا لا يوجد أدنى سند في روايته،
فكيف نأخذ برواية عن أمر حصل قبل 1100 سنة نوردها دون أدنى سند لها؟؟

نأتي الآن إلى الجهة الأهم، وهي الجهة الشرعية، المتمثلة في النواحي الآتية:
أولًا: مما يتبين من القصة أن الرجل قاتل خطأ، وليس بقاتل عمد، وفي شرع الله تعالى، القاتل الخطأ لا يُقتل،
فكيف يصح بناء ما تبقى من القصة في هذه الحال؟؟ وأي افتراء على الفاروق أعظم من القول إنه أراد تنفيذ حد في من لا يجب عليه الحد؟؟
ثانيًا: لنفترض أن الغلام قاتل عمد، فإن علماءنا وأئمة مذاهبنا الفقهية رحمهم الله تعالى، قد أجمعوا إجماعًا تامًا على أن حدود الله تعالى لا يجوز فيها العفو ولا الشفاعة
طالما وصلت إلى الإمام وجب عليه تنفيذها، وفي هذا سابقة في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، حين أتوه بسارق، فأمر بقطع يده، فقال صاحب الحق: ما أردت هذا، فقال له الرسول خشيت أن يقال_ قصة باطلة ولا أصل لها  Sala: (هلا كان عفوك قبل أن تأتينا به)؟! ثم أمر بتنفيذ الحد، وحتى في كتاب الله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم}،
ولكن إن وصل الأمر بهم إلى الإمام، فلا أحد من الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى أو تلاميذهم، قال بجواز العفو أو الشفاعة، فكيف يصح شرعًا أن يسأل عمر بن الخطاب أصحاب
الحق هنا إن كانا يعفوان أو لا؟ وكيف يصح شرعًا أن يقبل عفوهما فيما بعد؟؟
ثالثًا: دين الله تعالى حدد الحالات التي تقتل بها النفس المؤمنة وليس من بينها أبدًا قتل الكفيل، ولا يمكن استحداث هكذا حكم، فأولًا مسألة الكفالة في الحد، ذهب إلى منعها أصحاب المذاهب الأربعة، ما عدا بعض الشافعية قالوا بها، ولو كانت هذه القصة التي وردت هنا صحيحة، لاستدلوا بها قطعًا، وطالما هذا لم يحصل، فالقصة ليست بصحيحة!
رابعًا: حين أسلم (جبلة بن الأيهم) ثم لطم أعرابيًا وشوه أنفه، عرض عليه عمر الاعتذار فرفض، فقال له إنهم سيأخذون منه القصاص، فطلب مهلة للتفكير، وأطلقه عمر بدون كفيل، فكيف يطلب كفيلًا في هذه القصة المزعومة هنا؟ إن أراد الإمام إطلاق أحد، فعل ذلك على مسؤوليته الخاصة، وليس بكفالة إنسان، قد تكلف حياته فيما بعد!
خامسًا: كيف يهمُّ عمر بقتل إنسان مسلم بريء لقيامه بعمل إنساني فيه مصلحة وحياة امرأة وأطفال، دون أن يتوثق ويتأكد هل المكفول سيحضر أو لا، ودون أن يتوثق إن كان المكفول قد حضر فعلًا وأخره أمر خارج عن إرادته كتعب أو ألم، أو أن تهلك راحلته مثلًا، أو أن يقع وتتأذى ساقه مما سيدفع به مرغمًا إلى التأخر؟؟

نكتفي بهذا القدر، ونرجو أن يكون فيه الإيضاح حول بطلان هذه القصة المزعومة،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.