الباب الثاني

فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين

الفصل السادس :

الجلوس في المسجد وانتظار الجماعة



قد علمنا أن بعض الشارحين أحصى سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد سبق لنا فى فصول سابقة إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى " ترديد الأذان خلف المؤذن " ، ثم ثنينا بـ " التَّهْجِير"أَيْ التَّبْكِير بالذهاب إلى المسـجد ثم الثالثة وهى " المشى إلى المسجد بالسـكينة والوقار" ، ثم رابعتها وهى " دخول المسجد داعيا " ،ثم " صلاة التحية " كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، واليوم بفضل الله تعالى مع السادسة من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، ألا وهى : " الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة فيه " ، وقد رغب الشرع الحنيف في الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة فيه فعن سهل الساعدي قال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول :
" من كان في مسجد ينتظر الصلاة فهو في الصلاة " ( [4] )
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ : " أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاط "( [5] )
كرره مَرَّتَيْنِ ، وَفِي الْمُوَطَّأ ثَلَاث مَرَّات " فَذَلِكُمْ الرِّبَاط فَذَلِكُمْ الرِّبَاط فَذَلِكُمْ الرِّبَاط "
وَانْتِظَارُ الصَّلاة بَعْدَ الصَّلاةِ : أَيْ ينتظر وَقْتِهَا أَوْ جَمَاعَتِهَا ، يَعْنِي إِذَا صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ أَوْ مُنْفَرِدًا ، ثُمَّ يَنْتَظِرُ صَلاةً أُخْرَى وَيُعَلِّقُ فِكْرَهُ بِهَا ، بِأَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِي بَيْتِهِ يَنْتَظِرُهَا ، أَوْ يَكُونُ فِي شُغْلِهِ وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِهَا.( [6] )
وعلى ذلك فـ " َانْتِظَار الصَّلاة بَعْد الصَّلاة " يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا الْجُلُوس فِي الْمَسْجِد ، وَالثَّانِي تَعَلُّق الْقَلَب بِالصَّلاةِ وَالاهْتِمَام بِهَا ، وَالتَّأَهُّب لَهَا. ( [7] )
وقد رتب الشرع الحنيف أجورا عظيمة علي الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة فيه : ففى الحديث الأول جعل منتظر الصلاة كأنه فى صلاة دائمة ، فيجرى له أجر الصلاة ، كما روى ابو هريرة : " ... لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ "أي في ثواب صلاة لا في حكمها ، لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة، وذلك "مَا دَامَتْ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ لا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلا الصَّلاةُ "( [8] )
فإذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب المذكور ، وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر ، وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه ؟ بمعنى أنه رجل قلبه معلق في المساجد ، ولكن لم يتواجد فيه ؟ الظاهر خلافه ، لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة ، لكن للمذكور ثواب يخصه ، لتعلق قلبه بالمساجد. ( [9] )
قلت : ويترتب على ذلك أيضا أَنَّهُ يَنْبَغِي لمن قَعَدَ يَنْتَظِر الصَّلاة أن يعتمد مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اِعْتِمَادُهُ ، وَاجْتِنَابُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اِجْتِنَابُهُ ، لقَوْله صلي الله عليه وسلم :"... فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاةِ فَهُوَ فِي صَلاةٍ "فيُسْتَحَبّ له أَنْ لا يَعْبَث بِيَدِهِ ، وَلا يَتَكَلَّم بِقَبِيحٍ ، وَلا يَنْظُر نَظَرًا قَبِيحًا ، ولا يصخب ، ولا يرفع صوته بما لا يليق ، وَيَجْتَنِب مَا أَمْكَنَهُ مِمَّا يَجْتَنِبهُ الْمُصَلِّي ؛ لكونه فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي.وفى الحديث الثانى جعل انتظار الصلاة من الأعمال التى " يَمْحُو اللَّهُ بِها الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِها الدَّرَجَاتِ " . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : ( مَحْو الْخَطَايَا ) كِنَايَة عَنْ غُفْرَانهَا ، قَالَ : وَيَحْتَمِل مَحَوْهَا مِنْ كِتَاب الْحَفَظَة وَيَكُون دَلِيلا عَلَى غُفْرَانهَا ، ( وَرَفْع الدَّرَجَات ) إِعْلاء الْمَنَازِل فِي الْجَنَّة. ( [10] )
كما شبه منتظر الصلاة بالمرابط ، فقال : " فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاط كرره مَرَّتَيْنِ ، وَفِي الْمُوَطَّأ ثَلاث مَرَّات " فَذَلِكُمْ الرِّبَاط فَذَلِكُمْ الرِّبَاط فَذَلِكُمْ الرِّبَاط " أَيْ الْمَذْكُور فِي قَوْله سبحانه وتعالي :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا " وَحَقِيقَته رَبْط النَّفْس وَالْجِسْم . ( [11] )
وَأَصْلُ الرِّبَاطِ ــ بِكَسْرِ الرَّاءِ ــ مُلازَمَة ثَغْر الْعَدُوّ لِمَنْعِهِ وَهَذِهِ الأَعْمَال ــ ومنها " َانْتِظَار الصَّلاة بَعْد الصَّلاة " ــ تَسُدّ طُرُق الشَّيْطَان عَنْهُ وَتَمْنَع النَّفْس عَنْ الشَّهَوَات ، تَرْبِطُ صَاحِبَهَا عَنْ الْمَعَاصِي وَتَكُفُّهُ عَنْ الْمَحَارِمِ ، وَعَدَاوَة النَّفْس وَالشَّيْطَان لا تَخْفَى ، ولهذا قال الْقَاضِي : إِنَّ هَذِهِ الأَعْمَالَ ــ ومن جملتها " َانْتِظَار الصَّلاة بَعْد الصَّلاة " ــ هِيَ الْمُرَابَطَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لأَنَّهَا تَسُدُّ طُرُقَ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّفْسِ ، وَتَقْهَرُ الْهَوَى وَتَمْنَعُهَا مِنْ قَبُولِ الْوَسَاوِسِ ، فَيَغْلِبُ بِهَا حِزْبُ اللَّهِ جُنُودَ الشَّيْطَانِ وَذَلِكَ جِهَاد كبير. فَلِذَلِكَ قَالَ الرِّبَاط بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّكْرَار ، وَحِكْمَةُ تَكْرَارِهَا لِلاهْتِمَامِ بِهَا ــ أى الاهتمام بانتظار الصلاة ــ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهَا . وَ قَوْلُهُ : فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ أَيْ الرِّبَاطُ الْمُرَغَّبُ فِيهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الرِّبَاطُ الْمُتَيَسِّرُ الْمُمْكِنُ ، أَيْ إِنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَاطِ اِنْتَهَى ( [12] )
فعلى المسلم أن يعض على هذا النوع من الرباط بالنواجذ ، بعد أن حرم المسلمون من الرباط الحقيقى ، عسى أن نحصل أجره ، فإن أجر الرباط عظيم يستحق أن يبذل من أجله الغالى والنفيس ؛ فعن سلمان قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان " ( [13] )
هَذِهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْمُرَابِطِ ، وَجَرَيَان عَمَله بَعْد مَوْته فَضِيلَة مُخْتَصَّة بِهِ ، لا يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد ، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي غَيْر مُسْلِم ( [14] ) : " كُلّ مَيِّت يُخْتَم عَلَى عَمَله " الْمُرَاد بِهِ طَيّ صَحِيفَته وَأَنْ لا يَكْتُب لَهُ بَعْد مَوْته عَمَل " إِلا الْمُرَابِط فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة "
قَوْله صلي الله عليه وسلم : ( وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقه ) مُوَافِق لِقَوْلِه سبحانه وتعالي فِي الشُّهَدَاء : " أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ "( [15] ) ( وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّان الْقَبْر ) : أَيْ فَتَّانِيهِ وَهُمَا مُنْكَر وَنَكِير ، قَالَ الْعَلْقَمِيّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لا يَجِيئَانِ إِلَيْهِ وَلا يَخْتَبِرَانِهِ بَلْ يَكْفِي مَوْته مُرَابِطًا فِي سَبِيل اللَّه شَاهِدًا عَلَى صِحَّة إِيمَانه . وَيَحْتَمِل أَنَّهُمَا يَجِيئَانِ إِلَيْهِ لَكِنْ لا يَضُرَّانِهِ وَلا يَحْصُل بِسَبَبِ مَجِيئِهِمَا فِتْنَة . ( [16] )
ومن بركات انتظار الصلاة ، ارتباطها بساعة الإجابة يوم الجمعة ، روى الإمام مالك فى الموطأ ، فى فضل يوم الجمعة ، عن أبى هريرة مرفوعا : " ... وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ "قَالَ كَعْبٌ : ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ . فَقُلْتُ : بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ . فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ... قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَا حَدَّثْتُهُ بِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ... فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ صَدَقَ كَعْبٌ ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَقُلْتَ لَهُ : أَخْبِرْنِي بِهَا وَلا تَضَنَّ عَلَيَّ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ : هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ : وَكَيْفَ تَكُونُ آخِرَ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِصلي الله عليه وسلم : " لا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي " وَتِلْكَ السَّاعَةُ سَاعَةٌ لا يُصَلَّى فِيهَا ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ : أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِصلي الله عليه وسلم : " مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ فَهُوَ فِي صَلاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ ؟ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ : بَلَى . قَالَ : فَهُوَ ذَلِكَ. ( [17] )
والشاهد من الحديث أن ساعة الإجابةتَكُونُ آخِرَ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، لا يُصَادِفهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي : أَيْ لا يُوَافِقهَا وَهُوَ يُصَلِّي حَقِيقَة أَوْ حُكْمًا بِالانْتِظَار ، وتِلْكَ السَّاعَةُ سَاعَةٌ لا يُصَلَّى فِيهَا، إلا أن مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ فَهُوَ فِي صَلاةٍ حُكْمًا ، حَتَّى يُصَلِّي حَقِيقَة ، وهذا من بركات انتظار الصلاة بعد الصلاة.
وَقَوْلُ كَعْبٍ : صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَلَى مَعْنَى أَنَّ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ مُوَافِقٌ لَهُ لا عَلَى مَعْنَى أَنَّ صِدْقَهُ إنَّمَا ظَهَرَ بِمُوَافَقَتِهِ مَا قَرَأَ مِنْ التَّوْرَاةِ ؛ لأَنَّ الَّذِي عِنْدَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَصَحُّ وَصِدْقُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِمُوَافَقَةِ مَا قَرَأَ كَعْبٌ لَهُ ، بل وَفِي هَذَا مُعْجِزَة عَظِيمَة دَالَّة عَلَى كَمَالِ عِلْمه صلي الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ ، حَيْثُ أَخْبَرَ بِمَا خَفِيَ عَلَى أَعْلَم أَهْل الْكِتَاب .وَقَوْلُهُ : ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ قَدْ عَلِمْت أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ ، إظْهَارٌ لِعِلْمِهِ وَتَنْبِيهٌ لأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ .وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْبِرْنِي بِهَا وَلا تضنن عَلَيَّ ، بِمَعْنَى لا تَبْخَلْ عَلَيَّ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلا يَسْتَضِرُّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بَلْ يَنْتَفِعُ بِتَعْلِيمِهِ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ذَلِكَ لأَنَّ فِطْرَةَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الْبُخْلُ بِمَا يَنْفَرِدُ بِعِلْمِهِ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ : هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ . " وَكَيْفَ تَكُونُ آخِرَ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَتِلْكَ سَاعَةٌ لا يُصَلَّى فِيهَا ؟ "مُطَالَبَةً مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بِتَصْحِيحِ قَوْلِهِ ، وَلِيُزِيلَ مِنْ نَفْسِ أَبِي هُرَيْرَةَ الشُّبْهَةَ الَّتِي تَعْتَرِضُ عَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى كَثْرَةِ بَحْثِهِمْ عَنْ مَعَانِي الأَلْفَاظِ وَتَحْقِيقِهِمْ فِيهَا وَصِحَّةِ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَيْهَا ، بِمَعْنَى اسْتِخْرَاجِ الْفَائِدَةِ لا للمراء والجدل ، فَفَزِعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى تَأْوِيلِ الظَّاهِرِ الَّذِي اعْتَرَضَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِهِ ، وبَيَّنَ لَهُ وَجْهَهُ وَمُوَافَقَتَهُ لِمَا رَوَاهُ عَنْ النبى صلي الله عليه وسلموَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُصَلِّي يَنْطَلِقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مُنْتَظِرِ الصَّلاةِ بِقَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : " مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ فِيهِ الصَّلاةَ فَهُوَ فِي صَلاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ "( [18] )
وقد روى النسائي وغيره فى تحديد هذه الساعة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهأن رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ : " يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً لَا يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلا آتَاهُ إِيَّاهُ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْر" ( [19] )



وصححه الألباني برقم 1388

ورواه البيهقي في بزيادة : " وفيها ساعة " فقال : " يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة فيها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أتاه إياه فالتمسوها آخر الساعة بعد العصر " وقال هذا إسناد ضعيف ( أي بالزيادة ) وروى عن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك فقال : " هي إذا تدلى عين الشمس للغروب " ( [20] )
وروى مسلم قولا آخر في تحديد هذه الساعة عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أنه سمع رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : " هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاةُ " ( [21] )

وفي شرح النووي على مسلم قال : قَالَ القاضي : اختلف السلف في وقت هذه الساعة وفي معنى قائم يصلي ، فقال بعضهم : هي من بعد العصر إلى الغروب ، قالوا : ومعنى يصلي يدعو ، ومعنى قائم : ملازم ومواظب كقوله
سبحانه وتعالي : " ما دمت عليه قائما " وقال آخرون : هي من حين خروج الإمام إلى فراغ الصلاة ، وقال آخرون : من حين تقام الصلاة حتى يفرغ ، والصلاة عندهم على ظاهرها ، وقيل : من حين يجلس الإمام على المنبر حتى يفرغ من الصلاة ، وقيل : آخر ساعة من يوم الجمعة ، قال القاضي : وقد رويت عن النبي الجلوس في المسجد وانتظار الجماعة .. الفضيلة السادسة من فضائل صلاة الجماعة السبع وال  Sala في كل هذا آثار مفسرة لهذه الأقوال ، قال : وقيل : عند الزوال ، وقيل : من الزوال إلى أن يصير الظل نحو ذراع ، وقيل : هي مخفية في اليوم كله كليلة القدر . وقيل : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس . قال القاضي : وليس معنى هذه الأقوال أن هذا كله وقت لها بل معناه أنها تكون في أثناء ذلك الوقت لقوله : " وأشار بيده يقللها " هذا كلام القاضي ... قال النووي والصحيح بل الصواب ما رواه مسلم من حديث أبي موسى عن النبي صلي الله عليه وسلم أنها " ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة " ... وأن هذا هو أجود حديث وأصحه في بيان ساعة الجمعة . ( [22] )
قلت : فهذه الأحاديث يعارض بعضها بعضا فى الظاهر ، فبينما ينص بعضها على أنها وقت صلاة الجمعة ، يقول آخر إنها آخر ساعة من النهار بعد العصر ... ولهذا اختلفت أقوال العلماء فى تحديد وقت هذه الساعة ، وأحسن الأقوال بأنها أبهمت ، ليجتهد الناس فى الدعاء فى جميع الأوقات ، وذلك مثلما أبهمت ليلة القدر فى العشر الأواخر من رمضان ليجتهد الناس فى العبادة فى الأيام العشر كلها ، وهذا هو ما ذهب إليه الإمام أَحْمَدُ حيث قَالَ : أَكْثَرُ الأَحَادِيثِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ أَنَّهَا بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ وَتُرْجَى بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ( [23] )
ولهذا ينبغى الاجتهاد فى الدعاء فى الوقتين : وقت صلاة الجمعة ، وآخر ساعة من نهار الجمعة بعد العصر.
وصلي اللهم وسلم وبارك علي محمد


وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا