الباب الثاني

فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين

الفصل الخامس :

صلاة تحية المسجد

الحمــد لله الذى امتن على عباده المؤمنين بما دلهم عليه من معرفته ، وشرح صدورهم للإيمان به ، والإخلاص بالتوحيد لربوبيته ، ففرض جل ثناؤه عليهم فرائضه ، فلا نعمة أعظم على المؤمنين بالله من نعمة الإيمان ، والخضوع لربوبيته ، ثم النعمة الأخرى ما افترض عليهم من الصلاة خضوعا لجلاله ، وخشوعا لعظمته ، وتواضعا لكبريائه ، فقال سبحانه وتعالي : " وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " ( [1] ) فلم يفترض عليهم بعد توحيده ، والتصديق برسله ، وما جاء من عنده فريضة آكد من الصلاة .
ولقد أكثر الله سبحانه وتعالي من ذكر الصلاة في كتابه الكريم ، وعظم شأنها ، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة .
وقد بينت السنة النبوية فضل صلاة الجماعة فى أحاديث كثيرة منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهقال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة " ( [2] ) وقد انفزدت رواية ابْنِ عُمَرَ بأنها تفضل : " ًبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " ( [3] )
وقد أحصى بعضُ الشارحين سبعا وعشرين فضيلة لصلاة الجماعة ، وقد سبق لنا فى خطب سابقة إلقاء الضوء على بعض منها ، بدأًًًًًًً بالفضيلة الأولى وهى ترديد الأذان خلف المؤذن . ثم ثنينا بـ" التَّهْجِير" أَيْ التَّبْكِير بالذهاب إلى المسـجد ثم الثالثة وهى المشى إلى المسجد بالسـكينة والوقار ، ثم الرابعة وهي دخول المسجد داعيا ، كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، واليوم بفضل الله تعالى مع الخامسة من الفضائل السبع والعشرين لصلاة الجماعة ، ألا وهى : صلاة تحية المسجد .
عرفنا في الأسبوع الماضي أنلداخل المسجد إن كان فيه جماعة ثلاث تحيات متواليات :
· الأولي أن يدخل برجله اليمني ويقول عند دخوله : بسم الله والصلاة والسلام على رسـول الله صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Salaاللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك ، أو غير ذلك من أذكار كثيرة ، ثبتت عن رسول الله في موطن الدخول إلى المسـجد .
· ثم يصلى ركعتين تحية المسجد وهي الثانية· ثم يسلم على القوم وهي الثالثة .
فهديه صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Salaأن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ، ثم يجىء فيسلم على القوم ، فتكون صلاة تحية المسجد قبل تحية من يكون متواجدا من الناس بالمسجد ، فإن تلك حق الله تعالى ، والسلام على الخلق حق لهم ، وحق الله فى هذا المقام أحق بالتقديم ، بخلاف الحقوق المالية فإن فيها نزاعا معروفا ــ بين العلماء ــ ، والفرق بينهما حاجة الآدمى وعدم اتساع الحق المالى لأداء الحقين بخلاف السلام ، والسيرة النبوية المشرفة تبين أن عادة القوم معه صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala كانت هكذا : يدخل أحدهم المسجد فيصلى ركعتين ثم يجىء فيسلم على النبى صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala وهذا ما يدلنا عليه حديث المسئ صلاته ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Salaجَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala فَقَالَ لَهُ رَسُـــــولُ اللَّهِ صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala: " وَعَلَيْكَ السَّلامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ... وذكر الحديث ( [4] ) فأنكر صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Salaعليه صلاته ، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala إلى ما بعد الصلاة. ( [5] )
وقد أجمع المسلمون علي أن صلاة تحية المسجد سـنة ، وإن كان قد حكي عن البعض ـ الْقَاضِي عِيَاض عَنْ دَاوُدَ وَأَصْحَابه ـ أنها واجبة ، فعن أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala قَالَ : " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ " وَفِي الرِّوَايَة الأُخْرَى : " فَلا يَجْلِس حَتَّى يَرْكَع رَكْعَتَيْنِ ". ( [6] )
ففي هذا الحديث : استحباب تحية المسجد بركعتين ، وهي سنة بإجماع المسلمين ، وحكى وجوبهما .
وفيه : التصريح بكراهة الجلوس بلا صلاة وهي كراهة تنزيه . وفيه : استحباب التحية في أي وقت دخل ، وبه قال جماعة ، وكرهها البعض كأبي حنيفة والأوزاعي والليث فِي وَقْت النَّهْي ( [7] ) وأجاب غيرالمانعين : أن النهي إنما هو عما لا سبب له ؛ لأن النبي صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر ، فخص وقت النهي وصلى به ذات السبب . وكان من هديه صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Salaأنه لم يترك صلاة التحية في حال من الأحوال ، بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين ، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها ، فعن جابررضي الله عنه : أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي يخطب فقال صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala: " أَصَلَّيْت يَا فُلان ؟ قَالَ : لا. قال صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala : " قُمْ فَارْكَعْ "، فعلم أن صلاة تحية المسجد مسـتثناة من هذا المنع ، وأن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد ... واستدل به أيضا على جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة ، لأنها إذا لم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى . ( [8] )
فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن ؛ لأن الرجل قعد وهي مشروعة قبل القعود ؛ ولأنه كان يجهل حكمها ، ولأن النبي صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala قطع خطبته وكلمه وأمره أن يقوم ويصلي التحية ، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala هذا الاهتمام .( [9] )
يؤيد ذلك مارواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala : " أَرَكَعْت رَكْعَتَيْنِ ؟ " قَالَ : لا ، قَالَ صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala: " قُمْ فَارْكَعْهُمَا " . ترجم عليه ابن حبان أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس ، وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم ، أما الجاهل أو الناسي فلا . ( [10] )
قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ : وما يفعله بعض العوام من الجلوس أولا إذا دخل المسجد والإمام يخطب ثم القيام ثانيا للصلاة ، أثناء الاستراحة بين الخطبتين ، فهذا التصرف باطل لا أصل له .
وعليه فإنه كما قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ ،فإن فيه : من الفقه أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد ــ تعظيما للمسجد ــ قبل أن يجلس ، وسواء كان ذلك في جمعة أو غيرها ، كان الإمام على المنبر أو لم يكن لأن النبي صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Salaعم ولم يخص . ( [11] )
ومن شـدة حرص الفقهاء علي ضرورة صلاة التحية ، نجد أن الإمام الشافعي مثلا ، أنه في حالة ما إذا كان الداخل في آخر الخطبة ، قال الشافعي : أرى للإمام أن يأمر الآتي بالركعتين ويزيد في كلامه ما يمكنه الإتيان بهما قبل إقامة الصلاة ، فإن لم يفعل كرهت ذلك . وحكى النووي عن المحققين أن المختار إن لم يفعل أن يقف حتى تقام الصلاة لئلا يكون جالسا بغير تحية أو متنفلا حال إقامة الصلاة . ( [12] )أما الإمام : اتفقوا على سقوط التحية عنه مع كونه يجلس على المنبر ومع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم . ( [13] )أما عن كيفية صلاة التحية :فقد ترجم البخاري علي ذلك : ( باب مَنْ جَاءَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ) لكن لم يقع في الحديث الذي ذكره التقييد بكونهما خفيفتين ، إلا أن المصنف جرى على عادته في الإشارة إلى ما في بعض طرق الحديث فقد روي عن جابر في السنن بلفظ " قم فاركع ركعتين خفيفتين " وعند مسلم بلفظ " وتجوز فيهما " . ( [14] )أما مسلم فقد ترجم علي ذلك : " بَاب التَّحِيَّةُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ " وشفعها بأحاديث الباب ومنها : " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا " ( [15] ) وهذه الأحاديث كلها صريحة في الدلالة أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب استحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد ، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما ، وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة .وفيها أن تحية المسجد ركعتان وأن نوافل النهار ركعتان وأن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق جاهل حكمها ، والمستنبط من هذه الأحاديث أن تحية المسجد لا تترك في أوقات النهي عن الصلاة وأنها ذات سبب تباح في كل وقت . لأنها لو سقطت في حال لكان هذا الحال أولى بها فإنه مأمور باستماع الخطبة . فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبي صلاة تحية المسجد .. الفضيلة الخامسة من فضائل صلاة الجماعة السبع والعشرين ـ الفصل الخا مس Sala لها الخطبة وأمره بها بعد أن قعد وكان هذا الجالس جاهلا حكمها دل على تأكدها وأنها لا تترك بحال ولا في وقت من الأوقات . ( [16] )وعلي الجانب الآخر فإنه لو صلى على جنازة أو سجد شكرا أو سجد للتلاوة أو صلى ركعة بنية التحية لم تحصل التحية على الصحيح ؛ لأن المراد إكرام المسجد ولا يحصل بذلك ، لأنه خلاف ظاهر الحديث .
النية :
ولا يشترط أن ينوي التحية ، بل تكفيه ركعتان من فرض أو سنة راتبة أو غيرهما ، لو نوى بصلاته التحية والمكتوبة ، أو لو نوى بصلاته التحية والأخرى ، انعقدت صلاته وحصلتا له.
واستثنى المحاملي المسجد الحرام لأن تحيته الطواف ، والذي يظهر من قولهم إن تحية المسجد الحرام الطواف إنما هو في حق القادم ليكون أول شيء يفعله الطواف ، فالْمَسْجِد الْحَرَام أَوَّل مَا يَدْخُلهُ الْحَاجّ أو المعتمر ، يَبْدَأ بِطَوَافِ الْقُدُوم فَهُوَ تَحِيَّته ، وَيُصَلِّي بَعْده رَكْعَتَيْ الطَّوَاف .( [17] )
وأما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء ، ولعل قول من أطلق أنه يبدأ في المسجد الحرام بالطواف لكون الطواف يعقبه صلاة الركعتين فيحصل شغل البقعة بالصلاة غالبا وهو المقصود ، ويختص المسجد الحرام بزيادة الطواف. ( )
وصلي اللهم وسلم وبارك علي محمد
وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
[1] البينة 5

[2]صحيح البخاري ج 3 / ص 34

[3]صحيح البخاري ج 3 / ص 35

[4] صحيح البخاري ج 19 / ص 276

[5]زاد المعاد 2/ 376

[6] صحيح البخاري ج 2 / ص 228

[7] راجع أوقات النهى فى نيل الأوطار ج 4 / ص 425

[8]فتح الباري لابن حجر 3/ 339

[9] نيل الأوطار ج 4/ ص 370

[10]فتح الباري لابن حجر 3/ 339

[11] عون المعبود شرح سنن أبى داود ج1 ص 497 حديث رقم395

[12]فتح الباري لابن حجر 3/ 339
[13]فتح الباري لابن حجر 3/ 339

[14]فتح الباري لابن حجر 3/ 340


[15]صحيح مسلم 4/ 374

[16]شرح النووي على مسلم 3/ 256

[17] شرح النووى على مسلم 3/34 ، فتح الباري لابن حجر 3/ 339