[size=32]ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بـســم الله الـــرحـمــن الرحيـــــم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ

كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ،

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ


جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ

جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ، وَجَعَلْنَـــــا

بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا


فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا

بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُـــــوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ

وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِـي ذَلِكَ لَآيَــــاتٍ لِّكُـــلِّ صَبَّارٍ


شَكُورٍ، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ،وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ

مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى

كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) .



سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن، ومسكنهم بلدة يقال


لها " مأرب " ومـــن نعم اللّه ولطفه بالناس عموما ،

وبالعرب خصوصا، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين


والمعاقبين ، ممن كان يجاور العرب ، ويشاهد آثاره ،

ويتناقل الناس أخباره، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق،

وأقرب للموعظة فقـــال ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ )


أي : محلهم الـذي يسكنون فيـــه ( آيَةٌ ) والآية هنا :

ما أدرَّ اللّه عليهم من النعم، وصرف عنهم من النقم،

الذي يقتضي ذلك منهم، أن يعبدوا اللّه ويشكروه .



ثم فسر الآية بقوله ( جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ) وكــان

لهـم واد عظيــم ، تأتيه سيول كثيرة ، وكانوا بنوا سدا

محكما ، يكـون مجمعا للمــاء ، فكانت السيول تأتيه ،


فيجتمع هنـاك ماء عظيم ، فيفرقونه عــلى بساتينهم ،


التـــي عــن يمين ذلك الوادي وشماله . وتُغِلُّ لهم تلك


الجنتان العظيمتان من الثمار ما يكفيهم، ويحصل لهم

به الغبطة والسرور ، فأمرهم اللّه بشكر نعمـه التــي

أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة :


منهـــا : هاتان الجنتان اللتان غالب أقواتهم منهـــما .

ومنها: أن اللّه جعل بلدهم، بلدة طيبة، لحسن هوائها،

وقلة وخمها ، وحصول الرزق الرغد فيها .



ومنها : أن اللّه تعالى وعدهم - إن شكروه - أن يغفر

لهم وَيرحمهم ، ولهذا قال ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ )



ومنهــا : أن اللّه لمــا عــلــم احتياجهم فــــي تجارتهم

ومكاسبهم إلــى الأرض المباركة - الظاهر أنها " قرى

صنعاء قاله غير واحد من السلف، وقيل إنها" الشام -


هيأ لهم مــن الأسباب ما به يتيسر وصولهم إليهــــا ،

بغاية السهولة، من الأمن ، وعدم الخوف ، وتواصل

القرى بينهم وبينها ، بحيـث لا يكون عليهم مشقة ،

بحمل الزاد والمزاد .


ولهذا قال ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا

قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ) أي : " سيرا " مقدرا

يعرفونه ويحكمون عليه، بحيث لا يتيهون عنه( لَيَالِيَ


وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) أي : مطمئنين فــي السير ، فـــــي تلك

الليالي والأيام ، غير خائفين . وهـــذا من تمام نعمة

اللّه عليهم ، أن أمنهم من الخوف .



فأعرضوا عن المنعم ، وعن عبادته ، وبطروا النعمة،

وملوها، حتى إنهم طلبوا وتمنوا، أن تتباعد أسفارهم

بين تلك القرى ، التي كان السير فيها متيسرا .


( وَظَلَمُـوا أَنفُـــسَهُمْ ) بكفرهم باللّه وبنعمته ، فعاقبهم

اللّه تعالى بهذه النعمة، التي أطغتهم ، فأبادها عليهم،

فأرسل عليها سيل العرم . أي: السيل المتوعر ،الذي


خرب سدهم وأتلف جناتهم، وخرب بساتينهم، فتبدلت

تـلك الجنات ذات الحدائق المعجبة والأشجار المثمرة،

وصار بدلها أشجار لا نفع فيها، ولهذا قال (وَبَدَّلْنَاهُم


بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ ) أي: شيء قليل من الأكل

الذي لا يقع منهم موقعا ( خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ

قَلِيلٍ)وهذا كله شجر معروف وهذا من جنس عملهم.



فكمـــا بدلوا الشكر الحسن ، بالكفر القبيح ، بدلوا تلك

النعمة بما ذكر ولهذا قال(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ

نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) أي : وهــل نجازي جزاء العقوبة

- بدليل السياق - إلا من كفر باللّه وبطر النعمة ؟


فلما أصابهم ما أصابهم ، تفرقوا وتمزقوا، بعدما كانوا

مجتمعين ، وجعلهم اللّه أحاديث يتحدث بهـم، وأسمارا

للناس ، وكان يضرب بهم المثل فيقــال " تفرقوا أيدي


سبأ " فكـل أحد يتحدث بما جرى لهـم ، ولكن لا ينتفع

بالعبرة فيهـم إلا من قـال اللّه ( إِنَّ فِـي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُـلِّ

صَبَّارٍ شَكُورٍ ) صبار عــلى المكاره والشدائد، يتحملها


لوجه اللّه ، ولا يتسخطها بل يصبر عليهــا . شكـــور

لنعمة اللّه تعـالى يُقِرُّ بها ، ويعترف ، ويثني على من

أولاها، ويصرفها فـي طاعته. فهذا إذا سمع بقصتهم،


وما جرى منهم وعليهم، عرف بذلك أن تلك العقوبة،

جزاء لكفرهم نعمة اللّه، وأن مـن فعل مثلهم، فُعِلَ به

كما فعل بهـم ، وأن شكر اللّه تعـالى حافظ للنعمة ،


دافع للنقمة وأن رسل اللّه صادقون فيما أخبروا به،

وأن الجزاء حق، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا .



ثم ذكر أن قوم سبأ من الذين صدَّق عليهم إبليس ظنه،

حيث قال لربه ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ

مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وهذا ظن من إبليس، لا يقين ، لأنه


لا يعلم الغيب، ولم يأته خبر من اللّه ، أنــــه سيغويهم


أجمعين، إلا من استثنى، فهؤلاء وأمثالهم، ممن صدق


عليه إبليس ظنه، ودعاهم وأغواهم(فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ممــن لــم يكفر بنعمة اللّه ، فــإنـــه

لم يدخل تحت ظن إبليس .



[/size]
[size=32]ويحتمل أن قصة سبأ ، انتهت عنـد قولـــه ( إِنَّ فِـي

ذَلِكَ لَآيَــــاتٍ لِّكُـــلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )



ثم ابتدأ فقــال ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ) أي : على جنس

الناس ، فتكون الآية عامة في كل من اتبعه .



ثم قال تعالى ( وَمَا كَانَ لَهُ ) أي : لإبليس ( عَلَيْهِم مِّن

سُلْطَانٍ ) أي: تسلط وقهر، وقسر على ما يريده منهم،

ولكـــن حكمـــة اللّه تعــالى اقتضت تسليطه وتسويله

لبني آدم .



( لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ) أي:

ليقوم سوق الامتحان ، ويعلـم به الصادق من الكاذب،

ويعرف مــن كان إيمانه صحيحا ، يثبت عند الامتحان


والاختبار، وإلقاء الشبه الشيطانية ، ممن إيمانه غير

ثابـت ، يتزلزل بأدنى شبهة ، ويزول بأقل داع يدعوه

إلـى ضده ، فاللّه تعــالى جعله امتحانا ، يمتحن بـه

عباده ، ويظهر الخبيث من الطيب .



( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) يحفظ العباد ، ويحفظ

عليهم أعمالهم ، ويحفظ تعالى جزاءها ، فيوفيهم

إياها، كاملة موفرة .



[/size]
[size=32]الكتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص 677)


للشيـــخ : عبد الرحمن السعـدي رحمه الله تعالى


[/size]