نتكلم عن العسل من خلايا غير مصبوغة بصباغة كيماوية، ومن نحل غير معلوف بالسكر، ومن نباتات بعيدة عن المبيدات، ومن خلايا موضوعة في أماكن بعيدة عن الطرق السيارة، وبدون لقاح للنحل وبدون مضادات ضد أمراض النحل، ومن شهد طبيعي دون الشمع الاصطناعي، وغير مستخرج بالطرد المحوري، وغير مصفى وغير مسخن على النار وغير ملفوف في أواني بلاستيكية. وإذا كان ممكن الحصول على هذا العسل فهو دواء وليس غذاء.

تتجلى فوائد العسل الصحية والطبية في الخصائص الكيماوية والفيزيائية والتي تختلف حسب العوامل البيئية والأحيائية المرتبطة بالنبات والنحل وكذلك الموسم والمنطقة. وإذ نتكلم عن لون العسل نكون بصدد جودة العسل الحسية من جهة، وجودة العسل الغذائية والطبية من جهة أخرى. وتستعمل كذلك هذه التقنية في علم التسويق الحديث أو ما يسمى بال Marketing لجلب المشتري أو المستهلك كوضع صور جذابة على الأغذية أو وصفها بأوصاف تشد المستهلك إليها لكن جمالية القرآن تفوق هذه الأوصاف البشرية بالمقارنة مع التعبير الإلهي. ونود أن نقف عند هذه الجمالية لنراها مباشرة في التعبير القرآني فيما يخص المواد الغذائية والأشربة.

فلون العسل يختلف باختلاف جودته، ونجد ألوان مختلفة كثيرا من الأبيض الغير الشفاف إلى الأبيض الشفاف، ثم الأصفر الخفيف والأصفر الداكن والبرتقالي والأحمر الشفاف ثم الأحمر الداكن، وهناك عسل يميل لونه إلى السواد. فالمكونات المسؤولة عن اللون تأتي من النبات ويختلف النبات في الطبيعة وتركيز هذه المكونات كالبوليفونولات والفلافونوييدات والمواد الملونة الأخرى التي تتحد أثناء جمع العسل لتعطي لونا مميزا لكل نوع من العسل. وأشار سبحانه إلى اللون لبيان حقيقتين. الأولى لأن المواد الملونة هي المسؤولة عن المواد الطبية أو الاستشفائية، والحقيقة الثانية احتواء العسل على بعض المركبات التي تناولها العلم مؤخرا لأهميتها الكيماوية وهي المركبات الكيماوية الضوئية .Photochemicals وكل من درس الكيمياء يعلم أهمية هذه المركبات. إن التعبير باللون ينطوي على حقائق علمية منها ما ظهر ومنها ما سيظهر، فلا يجب أن نتسرع مع الكلمة القرآنية أو نعجل بها. وتتحلل هذه المركبات مع تعرضها للضوء فيقد العسل جودته الاستشفائية، والعسل الشفاف يفقد المركبات النافعة بسرعة بالمقارنة مع العسل الداكن لأن هذا الأخير لا يدخله الضوء أو الأشعة. ولذلك كان الحس الإعجازي في الآية الكريمة باختلاف ألوان العسل.

ولكي نفهم مدى قوة تحفيظ العسل، أو مدى قوة المواد الكابحة للجراثيم، فإن بعض الحشرات لوتحاول الدخول إلىالخلية، تحنط من طرف النحل تماما كما كان يحنط المصريون موتاهم. بل أكثر من ذلك لو حاول حيوان صغير الدخول إلىالجبح، لحنط ولبقي هناك دون رائحة، بل يشمع ويحنط حتى لا يصيب الشهد. وكل الحيوانات التي تحاول الاقتراب من شهد النحل، تقتل أو تحنط حية، ولا تتسنه بعد ذلك، ولا تتحلل لتعطي روائح كريهة. وهذه الطريقة في حفظ المواد الحية، لا زالت العلوم مترددة فيها ترددا كبيرا.

ولا يسعنا أن نذكر كل التجارب، التي أجريت على العسل، والتي لازالت تجرى في المختبرات. ولا أحد يجهل دور العسل في الاستشفاء. وأجدر بنا أن نذكر الحديث المروى في الصحيحين البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إن أخي استطلق بطنه ـ فقال له صلى الله عليه وسلم (اسقه عسلاً) فسقاه عسلاً . ثم جاء فقال يا رسول الله سقيته عسلاً فما زاده إلا إستطلاقاً . قال : ( أذهب فاسقه عسلا ً) فذهب فسقاه عسلاً ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقاُ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فأسقه عسلاً فذهب فسقاه عسلاً فبرئ.

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على يقين من أن العسل فيه شفاء لذلك المريض، بالرغم من تظاهر بطنه برفض العسل في المرات الأربع، ولكنه تبين أخيرا أن الشفاء تم بالعسل.

ونرى في العصر الحاضر، وعلى ضوء علم الجراثيم، أن تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم، كان في منتهى العلوم الحديثة، ويتفق تماما مع ما جاء به علم الجراثيم. فلما نعالج الحالات المرضية بالمركبات الحيوية، يحدث أولا تظاهر بالمرض أكثر مما كان عليه المريض، وما هي إلا حالة تعود فيها الأمور إلىأصلها. ثم بعد ذلك تموت الجراثيم وتنتهي ليكون الشفاء مؤكدا. وهناك حضارات سالفة قبل الإسلام كانت تتداوى بالعسل، وقد عثر على طفل محنط في جرة من عسل، ولم يصبه تعفن ولا تحلل. ونريد أن نبين هنا كذلك أن الله خلق كل هذه الأشياء قبل نزول القرآن، ولا تخص هذه السنن الكونية أمة دون أمة، بمعنى أن العسل لما خلقه الله، جعل فيه ما جعل من المزايا للبشر، لكن البيان جاء في القرآن لأنه آخر ما نزل من السماء، ولأن ليس بعده نزول، ولأنه سيواكب العلوم الحديثة، فيجب أن يكون دائما فوق هذه العلوم كما يتبين لنا كل حين.

ولو أننا بصدد التغذية فالأشربة وصفت كلها لغايتها. فالماء هو مادة كل الأحياء، وبدونه لا يمكن أن تكون هذه الحياة من نبات أو حيوان أو حشرات أو جراثيم وكل شيء حي. والماء يرتبط في الخطاب القرآني بالحياة، نظرا لدوره الإحيائي في الإنبات بالنسبة للنبات، والتناسل بالنسبة للأحياء الأخرى، ونظرا لدوره الفايزيولوجي في نقل المغذيات داخل النبات والحيوان على حد سواء، ونظرا لدوره الكيماوي في المفاعلات الكيماوية بالنسبة للحل المائي والتركيب أو التمثيل.

والعسل وإن كان يستعمل كغذاء فهو دواء، ويجب أن يكون استعماله للدواء وليس للغذاء. أما العسل بمردودية عالية لسد حاجة السوق كما يزعم بعض المحللين الاقتصاديين، فليس إلا خرابا وكارثة لأن الإنتاج بهذه الطريقة جعل العسل يكون غذاء وليس دواء. وقد فقد بعض الخصائص الطبية نتيجة جهل طبيعته. فإدخال التقنيات الوراثية في ميدان تربية النحل، جعل خصائصه الأحيائية تتغير، وجعل العمل لا يمشي كما لو كان الخلق طبيعيا خالصا. ونلاحظ أن النحل المنتوج عن طريق التقنيات الحديثة يقتل النحل الطبيعي، وبعض السلالات المستوردة، أو التي تم إدخالها عن طريق العلم وبذريعة الإنتاجية والتقدم في ميدان تربية النحل قضت على السلالات المحلية بالتمام.